فصل: سورة فاطر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (52):

{وَقَالُوا آَمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52)}
{وَقَالُواْ ءامَنَّا بِهِ} أي بالله عز وجل على ما أخرجه جمع عن مجاهد، وقالت فرقة: أي حمد صلى الله عليه وسلم وقد مر ذكره في قوله سبحانه: {مَا بصاحبكم مّن جِنَّةٍ} [سبأ: 46] وقيل الضمير للعذاب، وقيل للبعث، ورجح رجوعه إلى محمد عليه الصلاة والسلام لأن الإيمان به صلى الله عليه وسلم شامل للإيمان بالله عز وجل وا ذكر من العذاب والبعث {وأنى لَهُمُ التناوش} التناوش التناول كما قال الراغب وروي عن مجاهد.
وقال الزمخشري: هو تناول سهل لشيء قريب يقال ناشه ينوشه وتناوشه القوم وتناوشوا في الحرب ناش بعضهم بعضًا بالسلاح، وقال الراجز:
فهي تنوش الحوض نوشًا من علا ** نوشًا به تقطع أجواز الفلا

وإبقاؤه على عمومه أولى أي من أين لهم أن يتناولوا الإيمان {مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ} فإنه في حيز التكليف وهم منه عزل بعيد؛ ونقل في البحر عن ابن عباس تفسير {التناوش} بالرجوع أي من أين لهم الرجوع إلى الدنيا، وأنشد ابن الأنباري:
تمنى أن تؤوب إلى مي ** وليس إلى تناوشها سبيل

ولا يخفى أنه ليس بنص في ذلك، والمراد تمثيل حالهم في الاستخلاص بالإيمان بعد ما فات عنهم وبعد بحال من يريد أن يتناول الشيء بعد أن بعد عنه وفات في الاستحالة. وقرأ حمزة. والكسائي. وأبو عمرو. وأبو بكر {التناؤش} بالهمز وخرج على قلب الواو همزة، قال الزجاج: كل واو مضمومة ضمة لازمة فأنت بالخيار فيها إن شئت أبقيتها وإن شئت قلبتها همزة فتقول ثلاث أدور بلا همز وثلاث أدؤر بالهمز. وتعقب ذلك أبو حيان فقال: إنه ليس على إطلاقه بل لا يجوز ذلك في المتوسطة إذا كانت مدغمًا فيها نحو تعود وتعوذ مصدرين وقد صرح بذلك في التسهيل ولا إذا صحت في الفعل نحو ترهوك ترهوكًا وتعاون تعاونًا؛ وعلى هذا لا يصح التخريج المذكور لأن التناوش كالتعاون في أن واوه قد صحت في الفعل إذ تقول تناوش فلا يهمز. وقال الفراء: هو من نأشت أي تأخرت وأنشد قول نهشل:
تمنى نئيشًا أن يكون أطاعني ** وقد حدثت بعد الأمور أمور

أي تمنى أخيرًا، والضمير للمولى في قوله:
ومولى عصاني واستبد برأيه ** كما لم يطع فيما أشاء قصير

فالهمزة فيه أصلية واللفظ ورد من مادتين، وقال بعضهم: هو من نأشت الشيء إذا طلبته، قال رؤبة:
أقحمني جار أبي الخابوش ** إليك نأش القدر النؤش

فالهمزة أصلية أيضًا، قيل والتناؤش على هذين القولين عنى التناول من بعد لأن الأخير يقتضي ذلك والطلب لا يكون للشيء القريب منك الحاضر عندك فيكون من {مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ} تأكيدًا أو يجرد التناوش لمطلق التناول، وحمل البعد في قيده على البعد الزماني بحث فيه الشهاب بأنه غير صحيح لأن المستعار منه هو في المكان وما ذكر من أحوال المستعار له.

.تفسير الآية رقم (53):

{وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53)}
{وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ} حال أو معطوف أو مستأنف والأول أقرب، والضمير المجرور لما عاد عليه الضمير السابق في {آمنا بِهِ} {مِن قَبْلُ} أي من قبل ذلك في أوان التكليف.
{وَيَقْذِفُونَ بالغيب} أي كانوا يرجمون بالمظنون ويتكلمون بما لم يظهر لهم ولم ينشأ عن تحقيق في شأن الله عز وجل فينسبون إليه سبحانه الشريك ويقولون الملائكة بنات الله تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا أو في شأن الرسول عليه الصلاة والسلام فيقولون فيه وحاشاه: شاعر وساحر وكاهن أو في شأن العذاب أو البعث فيبتون القول بنفيه {مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ} من جهة بعيدة من أمر من تكلموا في شأنه، والجملة عطف على {وَقَدْ كَفَرُواْ} وكان الظاهر وقذفوا إلا أنه عدل إلى صيغة المضارع حكاية للحال الماضية، والكلام قيل لعله تمثيل لحالهم من التكلم بما يظهر لهم ولم ينشأ عن تحقيق بحال من يرمي شيئًا لا يراه من مكان بعيد لا مجال للظن في لحوقه، وجوز الزمخشري كونه عطفًا على {قَالُواْ ءامَنَّا بِهِ} على أنهم مثلوا في طلبهم تحصيل ما عطلوه من الإيمان في الدنيا بقولهم آمنا في الآخرة وذلك مطلب مستبعد بمن يقذف شيئًا من مكان بعيد لا مجال للظن في لحوقه حيث يريد أن يقع فيه لكونه غائبًا عنه شاحطًا. وقرأ مجاهد. وأبو حيوة. ومحبوب عن أبي عمرو {يقذفون} مبنيًا للمفعول؛ قال مجاهد: أي ويرجمهم الوحي بما يكرهون مما غاب عنهم من السماء، وكأن الجملة في موضع الحال من ضمير كفروا كأنه قيل: وقد كفروا به من قبل وهم يقذفون بالحق الذي غاب عنهم وخفي عليهم، والمراد تعظيم أمر كفرهم، وجوز أن يراد بالغيب ما خفي من معايبهم أي وقد كفروا وهم يقذفهم الوحي من السماء ويرميهم بما خفي من معايبهم.
وقال أبو الفضل الرازي: أي ويرمون بالغيب من حيث لا يعلمون، ومعناه يجازون بسوء أعمالهم ولا علم لهم أتاه إما في حال تعذر التوبة عند معاينة الموت وإما في الآخرة انتهى، وفي حالية الجملة عليه نوع خفاء.
وقال الزمخشري: أي وتقذفهم الشياطين بالغيب ويلقنونهم إياه وكان الجملة عطف على {قَدْ كَفَرُواْ} وقيل أي يلقون في النار وهو كما ترى.

.تفسير الآية رقم (54):

{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)}
{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} قال ابن عباس: هو الرجوع إلى الدنيا، وقال الحسن: هو الإيمان المقبول، وقال قتادة: طاعة الله تعالى، وقال السدي: التوبة، وقال مجاهد: الأهل والمال والولد.
وقيل أي حيل بين الجيش والمؤمنين بالخسف بالجيش أو بينهم وبين تخريب الكعبة أو بينهم وبين النجاة من العذاب أو بينهم وبين نعيم الدنيا ولذتها وروي ذلك عن مجاهد أيضاةً و{حيل} مبني للمجهول ونائب الفاعل كما قال أبو حيان ضمير المصدر أي وحيل هو أي الحول؛ وحاصله وقعت الحيلولة ولإضماره لم يكن مصدرًا مؤكدًا فناب مناب الفاعل، وعلى ذلك يخرج قوله:
وقالت متى يبخل عليك ويعتلل ** يسؤك وإن يكشف غرامك تدرب

أي يعتلل هو أي الاعتلال، وقال الحوفي: قام الظرف مقام الفاعل، وتعقبه في البحر بأنه لو كان كذلك لكان مرفوعًا والإضافة إلى الضمير لا تسوغ البناء وإلا لساغ جاء غلامك بالفتح ولا يقوله أحد، نعم للبناء للإضافة إلى المبنى مواضع أحكمت في النحو، وماذا يقول الحوفي في قوله:
وقد حيل بين العير والنزوان

فإنه نصب بين مع إضافتها إلى معرب. وقرأ ابن عامر. والكسائي بإشمام الضم للحاء.
{يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بأشياعهم مّن قَبْلُ} أي بأشباههم من كفرة الأمم الدارجة، و{مِن قَبْلُ} متعلق بأشياعهم على أن المراد من اتصف بصفتهم من قبل أي في الزمان الأول، ويرجحه أن ما يفعل بجميعهم في الآخرة إنما هو في وقت واحد أو متعلق بفعل إذا كانت الحيلولة في الدنيا، وعن الضحاك أن المراد بأشياعهم أصحاب الفيل، والظاهر أنه جعل الآية في السفياني ومن معه.
{إِنَّهُمْ كَانُواْ فِي شَكّ مُّرِيبِ} أي موقع في ريبة على أنه من أرابه أوقعه في ريبة وتهمة أو ذي ريبة من أراب الرجل صار ذا ريبة فإما أن يكون قد شبه الشك بإنسان يصح أن يكون مريبًا على وجه الاستعارة المكنية التخييلية أو يكون الإسناد مجازيًا أسند فيه ما لصاحب الشك للشك مبالغة كما يقال شعر شاعر، وكأنه من هنا قال ابن عطية: الشك المريب أقوى ما يكون من الشك، وضمير الجمع للإشباع وقيل: لأولئك المحدث عنهم والله تعالى أعلم. ومن باب الإشارة في بعض آيات السورة ما قيل: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُودُ مِنَّا فَضْلًا ياجبال جِبَالٍ أَوّبِى مَعَهُ والطير} أشير بالجبال إلى عالم الملك وبالطير إلى عالم الملكوت، وقد ذكروا أنه إذا تمكن الذكر سري في جميع أجزاء البدن فيسمع الذاكر كل جزء منه ذاكرًا فإذا ترقى حاله يسمع كل ما في عالم الملك كذلك فإذا ترقى يسمع كل ما في الوجود كذلك{وإن من شيء إلا يسبح بحمده} [الإسراء: 44] {وَأَلَنَّا لَهُ الحديد} [سبأ: 10] القلب {أَنِ اعمل سابغات} وهي الحكم البالغة التي تظهر من القلب على اللسان {وَقَدّرْ فِي السرد} [سبأ: 11] أي في سرد الحديث بأن تتكلم بالحكمة على قدر ما يتحمله عقل مخاطبك، وقد ورد «كلموا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم».
ومن هنا يصعب الجواب عمن تكلم من المتصوفة بما ينكره أكثر من يسمعه من العلماء وبه ضل كثير من الناس {ولسليمان الريح} ريح العناية {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} فكان يتصرف بالهمة وقذف الأنوار في قلوب متبعيه من مسافة شهر {وَمِنَ الجن مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبّهِ} [سبأ: 12] إشارة إلى قوة باطنه حيث انقاد له من جبل على المخالفة وفعل الشرور {وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشكور} [سبأ: 13] وهو من شكره بالأحوال أعني التخلق بأخلاق الله تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الموت مَا دَلَّهُمْ على مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأرض تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ} [سبأ: 14] فيه إشارة إلى أن الضعيف قد يفيد القوي علمًا {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القرى التي بَارَكْنَا فِيهَا} وهي مقامات أهل الباطن من العارفين {قُرًى ظاهرة} وهي مقامات أهل الظاهر من الناسكين {سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِىَ} في ليالي البشرية {فِى مَا} في أيام الروحانية {ءامِنِينَ} [سبأ: 18] في خفارة الشريعة.
وقال بعض الفرقة الجديدة الكشفية: القرى المبارك فيها الأئمة رضي الله تعالى عنهم والقرى الظاهرة الدعاة إليهم والسفراء بينهم وبين شيعتهم {وَظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} يلهم إلى الدنيا وترك السير لسوء استعدادهم {حتى إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} [سبأ: 23] فيه إشارة إلى أن الهيبة تمنع الفهم {وَمَا أرسلناك} أي ما أخرجناك من العدم إلى الوجود {إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ} الأولين والآخرين {بَشِيرًا وَنَذِيرًا} وهذا حاله عليه الصلاة والسلام في عالم الأرواح وفي عالم الأجساد {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} [سبأ: 28] إذ لا نور لهم يهتدون به {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بَيّنَاتٍ قَالُواْ مَا هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءابَاؤُكُمْ} [سبأ: 43] هؤلاء قطاع الطريق على عباد الله تعالى ومثلهم المنكرون على أولياء الله تعالى الذين ينفرون الناس عن الاعتقاد بهم واتباعهم {قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ على نَفْسِى} إن النفس لأمارة بالسوء {وَإِنِ اهتديت فَا يُوحِى إلى رَبّى} [سبأ: 50] من القرآن وفيه إشارة إلى أنه نور لا يبقى معه ديجور أو مراتب الاهتداء به متفاوتة حسب تفاوت الفهم الناشئ من تفاوت صفاء الباطن وطهارته، وقد ورد أن للقرآن ظاهرًا وباطنًا ولا يكاد يصل الشخص إلى باطنه لا بتطهير باطنه كما يرمز إليه قوله تعالى: {لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون} [الواقعة: 79] نسأل الله تعالى أن يوفقنا لفهم ظاهره وباطنه إلى ما شاء من البطون فإنه جل وعلا القادر الذي يقول للشيء كن فيكون.

.سورة فاطر:

وتسمى سورة الملائكة.
وهي مكية كما روى عن ابن عباس وقتادة وغيرهما وفي مجمع البيان قال الحسن: مكية إلا آيتين: {إن الذين يتلون كتاب الله} الآية، {ثم أورثنا الكتاب} الآية.
وآيها ست وأربعون في المدني الأخير والشامي وخمس وأربعون في الباقين.
والمناسبة على ما في البحر أنه عز وجل لما ذكر في آخر السورة المتقدمة هلاك المشركين أعداء المؤمنين وإنزالهم منازل العذاب تعين على المؤمنين حمده تعالى وشكره كما في قوله تعالى: {فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين} وينضم إلى ذلك تواخي السورتين في الافتتاح بالحمد وتقاربهما في المقدار وغير ذلك.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآية رقم (1):

{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)}
{الحمد للَّهِ فَاطِرِ السماوات والأرض} أي موجدهما من غير مثال يحتذيه ولا قانون ينتحيه، فالفطر الإبداع، وقال الراغب: هو إيجاده تعالى الشيء وإبداعه على هيئة مترشحة لفعل من الأفعال.
وأخرج عبد بن حميد. والبيهقي في شعب الإيمان. وغيرهما عن ابن عباس قال: كنت لا أدري ما فاطر السماوات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها يعني ابتدأتها؛ وأصل الفطر الشق، وقال الراغب: الشق طولًا ثم تجوز فيه عما تقدم وشاع فيه حتى صار حقيقة أيضًا، ووجه المناسبة أن السماوات والأرض والمراد بهما العالم بأسره لكونهما ممكنين والأصل في الممكن العدم كما يشير إليه قوله تعالى: {كُلُّ شَيْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] وقوله عليه الصلاة والسلام: «ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن» وصرح بذلك فلاسفة الإسلام قال رئيسهم: الممكن في نفسه ليس وهو عن علته أيس كان العدم كامن فيهما وبإيجادهما يشقان ويخرج العدم منهما.
وقيل في ذلك: كأنه تعالى شق العدم بإخراجهما منه، وقيل: لا مانع من حمله على أصله هنا ويكون إشارة إلى الأمطار والنبات فكأنه قيل: الحمد لله فاطر السموات بالأمطار وفاطر الأرض بالنبات وفيه نظر ستأتي الإشارة إليه قريبًا، وقوله تعالى: {جَاعِلِ الملائكة رُسُلًا} على القولين يحتمل أن يكون معناه جاعل الملائكة عليهم السلام وسائط بينه وبين أنبيائه والصالحين من عباده يبلغون إليهم رسالته سبحانه بالوحي والإلهام والرؤيا الصادقة أو جاعلهم وسائط بينه وبين خلقه عز وجل يوصلون إليهم آثار قدرته وصنعه كالأمطار والرياح وغيرهما وهم الملائكة الموكلون بأمور العالم، وهذا أنسب بالقول الثاني لكن يرد عليه أنه لا معنى لكون الأمطار شاقة للسماوات، وقال الإمام: إن الحمد يكون على النعم ونعمه تعالى عاجلة وآجلة، وهو في سورة سبأ إشارة إلى نعمة الإيجاد والحشر ودليله {يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِي الأرض وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السماء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [سبأ: 2] وقوله تعالى: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة} [سبأ: 3] والحمد في هذه السورة إشارة إلى نعمة البقاء في الآخرة ودليله جاعل الملائكة رسلًا أي يجعلهم سبحانه رسلًا يتلقون عباد الله تعالى كما قال سبحانه تتلقاهم الملائكة فيجوز أن يكون المعنى الحمد لله شاق السماوات والأرض يوم القيامة لنزول الأرواح من السماء وخروج الأجساد من الأرض وجاعل الملائكة رسلًا في ذلك اليوم يتلقون عباده، وعليه فأول هذه السورة متصل بآخر ما مضى لأن قوله تعالى: {كما فعل بأشياعهم} [سبأ: 54] بيان لانقطاع رجاء من كان في شك مريب، ولما ذكر سبحانه حالهم ذكر حال المؤمنين وبشرهم بإرسال الملائكة إليهم وأنه تعالى يفتح أبواب الرحمة لهم انتهى، وفيه من البعد ما فيه، و{فَاطِرَ} صفة لله وإضافته محضة قال أبو البقاء: لأنه للماضي لا غير، وقال غيره: هو معرف بالإضافة إذ لم يجر على الفعل بل أريد به الاستمرار والثبات كما يقال زيد مالك العبيد جاء أي زيد الذي من شأنه أن يملك العبيد جاء، ومن جعل الإضافة غير محضة جعله بدلًا وهو قليل في المشتقات، وكذا الكلام في {جَاعِلِ وَرُسُلًا} على القول بأن إضافته غير محضة منصوب به بالاتفاق، وأما على القول الآخر فكذلك عند الكسائي، وذهب أبو علي إلى أنه منصوب ضمر يدل هو عليه لأن اسم الفاعل إذا كان عنى الماضي لا يعمل عنده كسائر البصريين إلا معرفًا باللام، وقال أبو سعيد السيرافي: اسم الفاعل المتعدي إلى اثنين يعمل بالثاني لأنه بإضافته إلى الأول تعذرت إضافته إلى الثاني فتعين نصبه له.
وعلل بعضهم ذلك بأنه بالإضافة أشبه المعرف باللام فعمل عمله هذا على تقدير كون الجعل تصييريًا أما على تقدير كونه إبداعيًا فرسلًا حال مقدرة، وقرأ الضحاك. والزهري {فَطَرَ جَعَلَ} فعلًا ماضيًا ونصب ما بعده قال أبو الفضل الرازي: يحتمل أن يكون ذلك على إضمار الذي نعتًا لله تعالى أو على تقدير قد فتكون الجملة حالًا.
وأنت تعلم أن حذف الموصول الاسمي لا يجوز عند جمهور البصريين، وذهب الكوفيون. والأخفش إلى إجازته وتبعهم ابن مالك وشرط في بعض كتبه كونه معطوفًا على موصول آخر ومن حجتهم {آمنا بالذى أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وإلهنا} [العنكبوت: 64] وقول حسان:
أمن يهجو رسول الله منكم ** وينصره ويمدحه سواء

وقول آخر:
ما الذي دأبه احتياط وحزم ** وهواه أطاع يستويان

واختار أبو حيان كون الجملة خبر مبتدأ محذوف أي هو فطر. وقرأ الحسن {جَاعِلِ} بالرفع على المدح وجر {الملائكة} وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو {جَاعِلِ} بالرفع بلا تنوين ونصب {الملائكة} وخرج حذف التنوين على أنه لالتقاء الساكنين ونصب الملائكة إذا كان جاعل للمضي على مذهب الكسائي. وهشام في جواز أعمال الوصف الماضي النصب. وقرأ ابن يعمر. وخليد {جَعَلَ} فعلًا ماضيًا {الملائكة} بالنصب وذلك بعد قراءته {فَاطِرَ} كالجمهور كقراءة من قرأ {فَالِقُ الإصباح وَجَعَلَ اليل سَكَنًا} [الأنعام: 96] وفي الكشاف قرئ {فَطَرَ وَجَعَلَ} كلاهما بلفظ الفعل الماضي.
وقرأ الحسن: وحميد بن قيس {رُسُلًا} بسكون السين وهي لغة تميم، وقوله تعالى: {أُوْلِى أَجْنِحَةٍ} صفة لرسلًا وأولو اسم جمع لذو كما إن أولاه اسم جمع لذا، ونظير ذلك من الأسماء المتمكنة المخاض، قال الجوهري: هي الحوامل من النوق واحدتها خلفة، و{أَجْنِحَةٍ} جمع جناح صيغة جمع القلة ومقتضى المقام أن المراد به الكثرة.
وفي البحر قياس جمع الكثرة فيه جنح فإن كان لم يسمع كان أجنحة مستعملًا في القليل والكثير، والظاهر أن الجناح بالمعنى المعروف عند العرب بيد أنا لا نعرف حقيقته وكيفيته ولا نقول إنه من ريش كريش الطائر.
نعم أخرج ابن المنذر عن ابن جريج أن أجنحة الملائكة عليهم السلام زغبة، ورأيت في بعض كتب الإمامية أن الملائكة تزدحم في مجالس الأئمة فيقع من ريشها ما يقع وأنهم يلتقطونه ويجعلون منه ثيابًا لأولادهم.
وهذا عندي حديث خرافة، والكشفية منهم يؤولونه بما لا يخرجه عن ذلك، وقوله تعالى: {مثنى وثلاث وَرُبَاعَ} الظاهر أنه صفة لأجنحة، والمنع من الصرف على المشهور للصفة والعدل عن اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة.
وقال الزمخشري: إنما لم تنصرف هذه الألفاظ لتكرار العدل فيها وذلك أنها عدلت عن ألفاظ الأعداد من صيغ إلى صيغ آخر كما عدل عمر عن عامر وحزام عن حازمة وعن تكرير إلى غير تكرير ففيها عدلان وأما الوصفية فلا يفترق الحال فيها بين المعدولة والمعدول عنها ألا تراك تقول مررت بنسوة أربع وبرجال ثلاثة فلا يعرج عليها. وتعقبه أبو حيان بأنه قاس الصفة في هذا المعدول على الصفة في أربع وثلاثة وليس بصحيح لأن مطلق الصفة لم يعدوه علة بل اشترطوا أن تكون الوصفية غير عارضة كما في أربع وأن لا يقبل تاء التأنيث أو تكون فيه كثلاث وثلاثة، وقال صاحب الكشف فيه: إن العدول عن التكرار لا يعتبر فيه للصيغة واعتبر في تحقق العدل ذلك ثم العدول عن الصيغة الأصلية لإفادة التكرر فلا عدولين بوجه، وبعد تسليم أن المعتبر في الوصف مقارنته لوضع المعدول فلا يضرب عروضه في المعدول عنه لا اتجاه للمنع ولا معول على السند وهو قول سيبويه على ما نقله الجوهري وهو المنصور على ما نبهت إليه انتهى. وتعقبه أيضًا «صاحب الفرائد» وصاحب التقريب بعروض الوصفية في المعدول عنه وعدمه في المعدول، لكن قال الطيبي: وجدت لبعض المغاربة كلامًا يصلح أن يكون جوابًا عنه وهو أن ثلاث مثلًا لا يخلو من أن يكون موضوعًا للصفة من غير اعتبار العدد أو لا يكون فإن كان الأول لم يكن فيه العدد والمقدر خلافه، وإن كان الثاني كان الوصف عارضًا لثلاث كما كان عارضًا لثلاثة فيمكن أن يقال إن هذه الأعداد غير منصرفة للعدل المكرر كالجمع وألفي التأنيث انتهى، وفيه ما لا يخفى.
وقال ابن عطية: إن هذه الألفاظ عدلت في حال التنكير فتعرفت بالعدل فهي لا تنصرف للعدل والتعريف وهذا قول غريب ذكر في البحر لبعض الكوفيين. وفي الكشاف هي نكرات يعرفن بلام التعريف تقول فلان ينكح المثنى والثلاث والرباع، وقيل: {مثنى} حال من محذوف والعامل فيه محذوف يدل عليه {بَعْدِهِ رُسُلًا} أي يرسلون مثنى وثلاث ورباع، والمعول عليه ما تقدم، والمراد ذوي أجنحة متعددة متفاوتة في العدد حسب تفاوت ما لهم من المراتب ينزلون بها ويعرجون أو يسرعون بها حين يؤمرون، ويجوز أن تكون كلًا أو بعضًا لأمور أخر كالزينة فيما بينهم وكالارجاء على الوجه حياء من الله تعالى إلى غير ذلك، والمعنى أن من الملائكة خلقًا لكل واحد منهم جناحان وخلقًا لكل منهم ثلاثة أجنحة وخلقًا لكل منهم أربعة أجنحة، ولا دلالة في الآية على نفي الزائد بل قال بعض المحققين: إن ما ذكر من العدد للدلالة على التكثير والتفاوت لا للتعيين ولا لنفي النقصان عن اثنين.
وقد أخرج الشيخان. والترمذي عن ابن مسعود في قوله تعالى: {لَقَدْ رأى مِنْ ءايات رَبّهِ الكبرى} [النجم: 18] رأى جبريل له ستمائة جناح، والترمذي عن مسروق عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ير جبريل في صورته إلا مرتين مرة عند سدرة المنتهى ومرة في جياد له ستمائة جناح قد سد الأفق، وقال الزمخشري: مر بي في بعض الكتب أن صنفًا من الملائكة عليهم السلام لهم ستة أجنحة فجناحان يلفون بهما أجسادهم وجناحان يطيرون بهما في أمر من أمور الله تعالى وجناحان مرخيان على وجوههم حياء من الله عز وجل.
والبحث عن كيفية وضع الأجنحة شفعًا كانت أو وترًا فيما أرى مما لا طائل تحته ولم يصح عندي في ذلك شيء ولقياس الغائب على الشاهد، قال بعضهم: إن المعنى إن في كل جانب لبعض الملائكة عليهم السلام جناحين ولبعضهم ثلاثة ولبعضهم أربعة وإلا فلو كانت ثلاثة لواحد لما اعتدلت، وهو كما ترى.
وقال قوم: إن الجناح إشارة إلى الجهة، وبيانه أن الله تعالى ليس فوقه شيء وكل شيء سواه فهو تحت قدرته سبحانه كما قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الروح الامين على قَلْبِكَ} [الشعراء: 193، 194] وقال تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ القوى} [النجم: 5] وقال تعالى: {فالمدبرات أَمْرًا} [النازعات: 5] وهما جناحان وفيهم من يفعل ما يفعل من الخير بواسطة وفيهم من يفعله لا بواسطة فالفاعل بواسطة منهم من له ثلاث جهات ومنهم من له أربع جهات وأكثر، وهذا خلاف الظاهر جدًا ولا يحتاج إليه السني القائل بأن الملائكة عليهم السلام أجسام لطيفة نورية يقدرون على التشكل بالصور المختلفة وعلى الأفعال الشاقة وإنما يحتاج إليه أو إلى نحوه الفلاسفة وأتباعهم فإن الملائكة عندهم هي العقول المجردة ويسميها أهل الإشراق بالأنوار الظاهرة وبعض المتصوفة بالسرادقات النورية، وقد ذكر بعض متأخريهم أن لها ذوات حقيقية وذوات إضافية مضافة إلى ما دونها إضافة النفس إلى البدن فأما ذواتها الحقيقية فإنما هي أمرية قضائية قولية وأما ذواتها الإضافية فإنما هي خلقية قدرية تنشأ منها الملائكة اللوحية وأعظمهم إسرافيل عليهم السلام، وتطلق الملائكة عندهم على غير العقول كالمدبرات العلوية والسفلية من النفوس والطبائع، وأطالوا الكلام في ذلك وظواهر الآيات والأخبار تكذبهم والله تعالى الموفق للصواب.
{يَزِيدُ فِي الخلق مَا يَشَاء} استئناف مقرر لما قبله من تفاوت الملائكة عليهم السلام في عدد الأجنحة ومؤذن بأن ذلك من أحكام مشيئته تعالى لا لأمر راجع إلى ذواتهم ببيان حكم كلي ناطق بأنه عز وجل يزيد في أي خلق كان كل ما يشاء أن يزيده وجب مشيئته سبحانه ومقتضى حكمته من الأمور التي لا يحيط بها الوصف، وقال الفراء. والزجاج: هذا في الأجنحة التي للملائكة أي يزيد في خلق الأجنحة للملائكة ما يشاء فيجعل لكل ستة أجنحة أو أكثر وروى ذلك عن الحسن، وكأن الجملة لدفع توهم عدم الزيادة على الأربعة.
وعن ابن عباس يزيد في خلق الملائكة والأجنحة ما يشاء، وقيل: {الخلق} خلق الإنسان و{مَا يَشَاء} الخلق الحسن أو الصوت الحسن أو الحظ الحسن أو الملاحة في العينين أو في الأنف أو في الوجه أو خفة الروح أو جعودة الشعر وحسنه أو العقل أو العلم أو الصنعة أو العفة في الفقراء أو حلاوة النطق، وذكروا في بعض ذلك أخبارًا مرفوعة والحق أن ذلك من باب التمثيل لا الحصر، والآية شاملة لجميع ذلك بل شاملة لما يستحسن ظاهرًا ولما لا يستحسن وكل شيء من الله عز وجل حسن.
{إِنَّ الله على كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ} تعليل بطريق التحقيق للحكم المذكور فإن شمول قدرته تعالى لجميع الأشياء مما يوجب قدرته سبحانه على أن يزيد في كل خلق كل ما يشاؤه تعالى إيجابًا بينًا.